حيفا الاسم الذي يتردد كلما ذُكرت فلسطين التاريخية. يُذكر مشفوعاً بالحنين للوطن المسلوب، وبذكريات التهجير والطرد، كما روت روضة غنايم في كتابها «حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس»؛ حيث تتبعت الكاتبة في بحثها سيرة سكان خمسة أحياء يحكون ذكرياتهم، وما يعرفونه عن حيفا التي خرج منها أجدادهم، وعن حيفا التي أصبحت اليوم مدينة مختلفة تماماً عما كانت عليه.
بعيداً عن الذكريات والعاطفة، صار اسم حيفا اليوم قرين التصعيد العسكري بين "حزب الله" اللبناني وجيش الاحتلال الإسرائيلي. فقد صارت حيفا رمز الحرب وعلامة التصعيد الذي ستصبح الحرب البرية عنده أمراً لا مفر منه. تقع المدينة الجميلة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وأول من سكنها هم العرب الكنعانيون، ودخلها الإسلام عبر الفتح في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
كان للمدينة دائماً من اسمها نصيب؛ فالاسم كما يقول متخصصو اللغة الآرامية، يأتي من كلمتين «حي» و«فيض»، أي «حي الخير الوفير»، و«حي المياه الكثيرة». وبعض العرب يقول إن اسمها عربي بمعنى «الناحية». والرومان يقولون إن الاسم يأتي من عندهم؛ إذ أطلقوا اسم «إيفا» على حصن كان موجوداً في موقع المدينة الحالي.
قد تختلف المسميات لكن الثابت أن المدينة عاشت قروناً من الازدهار تحت الحكم العثماني، قبل أن يأتي عام 1948 ليقلب كافة الموازين؛ فقد استولى الإسرائيليون على المدينة، وبدأوا تحت سياسة الحديد والنار بطرد وتهجير أهلها، حتى صار العرب حالياً في عام 2024، لا يشكلون سوى 12% فقط من سكان المدينة، بعد أن كان العرب الفلسطينيون يشكلون 73% من سكان حيفا عام 1932 مقابل 27% من اليهود آنذاك.
حيفا هي ثالث أكبر المدن في الكيان المحتل من حيث عدد السكان، وهي مركز تجاري وصناعي رئيسي في الاقتصاد الإسرائيلي حالياً؛ ففيها ثاني أكبر مصفاة للنفط، وميناؤها واحد من أكبر المواني الإسرائيلية الدولية، وفي ذلك الميناء تجري صناعة السفن الحربية الإسرائيلية، ويتم تفقدها قبل دخولها الخدمة.
الحقيقة الثابتة الجديدة بخصوص حيفا، هي أن مُسيرات حزب الله استطاعت التحليق فوق المدينة بكل حرية في الأسابيع الماضية، وتمكنت من رصد أكثر مواقع إسرائيل العسكرية والاستراتيجية الحساسة. مثل مصافي النفط ومصانع عسكرية إضافة إلى مواقع تمركز البوارج الحربية، وأماكن اقتصادية مهمة. مما خلق موجة من الهلع لدى مسؤولي مدن شمال إسرائيل وسكانها، وتحديداً مدينة حيفا، من أن وعيد حزب الله بضرب المدينة وما بعدها بات قريباً.
هنا نجد أن الاستثمار الإسرائيلي في حيفا حولها إلى قنبلة موقوتة تحيط بإسرائيل؛ ففيها عديد من مصانع المواد المتفجرة والقابلة للاشتعال. وكذلك مصانع المواد المُلوثة للبيئة والسامة للأفراد، التي يمكن أن تتسرب جراء أي استهداف صاروخي لمخزن يحتويها أو لأماكن تصنيعها.
ما يزيد الأمر سوءاً أن كل تلك الصناعات موجودة في مكان واحد، مُجمع حيفا البتروكيمائي. وبجانب هذا المجمع توجد قاعدة بولونيوم للأسلحة البحرية، وهي القاعدة التي تعد المقر الرئيسي للغواصات الحربية الإسرائيلية. كذلك يوجد في ميناء حيفا مبنى «وحدة الحوسبة 3800» قاعدة حيفا البحرية، ومبنى وحدة مهمات الأعماق «يلتام»، ومبان تابعة لوحدة الغواصات، ورصيف ومرسى الغواصات، ومبنى قيادة وحدة الغواصات «شايطيت».
ومما أظهرته صور حزب الله، نجد أن حيفا تحتوي على مجمع الصناعات العسكرية لشركة «رافائيل»، وذلك في منطقة صناعية عسكرية تبلغ مساحتها الإجمالية 6.5 كلم مربع، وتبعد عن الحدود اللبنانية 24 كيلومتراً. تضم المنطقة عدداً كبيراً من المصانع والمخازن وحقول التجارب، ويجري فيها تصنيع وتجميع مكونات أنظمة الدفاع الجوي التي تعتمد عليها إسرائيل حالياً مثل القبة الحديدية ومقلاع داوود.
في نفس المجمع ظهر بوضوح عدة منصات للقبة الحديدية، ونفق اختبار محركات صاروخية، ومخازن محركات صاروخية، ومخازن صواريخ الدفاع الجوي، ومنشآت تصنيع المكونات الصاروخية، ومنصات مقلاع داود، ومصانع أنظمة التحكم والتوجيه، والمباني الإدارية الخاصة بالشركة، إضافة إلى رادارات التجارب الصاروخية.
الخوف الإسرائيلي من استهداف حيفا تحول إلى واقع. فقد أعلن حزب الله في 23 سبتمبر الجاري أنه أطلق عشرات الصواريخ على مجمع الصناعات العسكرية لشركة «رافائيل» في منطقة زوفولون شمال مدينة حيفا. كما استهدف الحزب المقر الاحتياطي للفيلق الشمالي وقاعدة تمركز احتياط فرقة الجليل ومخازنها اللوجستية في قاعدة عميعاد. ليتوج بذلك حزب الله تهديداته المتكررة، عن وضع حيفا في دائرة الاستهداف، حال التصعيد الإسرائيلي.
ومن أبرز المواقع التي استهدفها حزب الله مؤخراً قاعدة رامات ديفيد. وهي من أهم القواعد العسكرية في إسرائيل، فهي القاعدة الأكبر في المنطقة الشمالية وواحدة من ثلاث قواعد جوية رئيسية في إسرائيل. وتقع في سهل مرج بن عامر أو ما يُسمى «سهل زرعين» وسط شمال الأراضي المحتلة، في مثلث جغرافي بين جنوب شرقي حيفا وجنين وطبريا، وبالقرب من الخط الأخضر الفاصل بين الضفة الغربية وفلسطين المحتلة عام 1948.
شُيّدت رامات ديفيد في منطقة منخفضة لا ترتفع عن مستوى سطح البحر إلا أمتار قليلة، وتحيط بها من كل الجهات هضاب وتلال ومرتفعات تمثل خطوط دفاع دفاعية طبيعية تحميها من هجمات الطائرات الحربية المنخفضة. وتبلغ مساحتها قرابة 11 كيلو متراً مربعاً.
وتعود أصول تلك القاعدة الجوية إلى فترة الانتداب البريطاني على فلسطين؛ حيث أُنشئت عام 1942 من قبل القوات البريطانية، وكانت تُستخدم كقاعدة جوية لدعم العمليات العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن بعد انسحاب القوات البريطانية من فلسطين عام 1948 وإعلان «قيام إسرائيل»، استولت قوات الاحتلال على القاعدة.
ويمكن إدراك أهمية القاعدة لإسرائيل، عند معرفة مدى التحصين الإسرائيلي المُخصص لحمايتها من الاستهدافات؛ فالقاعدة مُحاطة بأنظمة القبة الحديدية، وبأنظمة صواريخ باتريوت القادرة على التصدي للصواريخ الباليستية أو الطائرات المعادية، بجانب منظومة «مقلاع داوود».
تحوي القاعدة على ملاجئ للطائرات والمعدات تحت الأرض، لحمايتها من الهجمات الجوية أو الصاروخية. هذه الملاجئ قادرة على حماية الطائرات الهجومية -مثل «F-16» و«F-35»- من التعرض لأضرار كبيرة أثناء أي هجوم. كذلك تستخدم الأقمار الاصطناعية لرصد التحركات العسكرية في المناطق المحيطة بالقاعدة، مما يساعد في الكشف المبكر عن أي تهديدات قادمة سواء كانت هجمات صاروخية أو حشوداً عسكرية معادية.
يحيط بالقاعدة قرية سكنية لكنها محصنة دفاعياً كذلك، وهي تقع على بعد 650 متراً، وجُهزت بمجمع سكني يضم نحو 1700 شقة سكنية للضباط والعاملين في القاعدة وأسرهم، إضافة إلى مرافق مثل الملاعب والمدارس والمحال التجارية ومستشفى.
مع مرور الأيام وتصاعد وتيرة الحرب تبرز أسماء جديدة للمناطق التي يضعها حزب الله في دائرة استهدافه. لم يذهب الحزب حتى اللحظة إلى «ما بعد حيفا»، فلا تزال حيفا تحتوي عديداً من المناطق التي تقترب منها صواريخ الحزب يوماً بعد الآخر.
إن حيفا مدينة كبيرة تحتوي عدداً من المدن الأخرى بداخلها، ليس بالمعنى التقليدي المُتعارف عليه تنظيمياً في حالة المحافظات والأقاليم، لكن تحتوي حيفاً على أحياء ومناطق سكنية متباينة. منها منطقة الكرمل التي تقع على جبل الكرمل، وتعد من المناطق الراقية في المدينة، ويقطنها سكان من طبقات اجتماعية مرتفعة. أما «وادي النسناس» فحي تقليدي يسكنه العرب.
كذلك تضم حيفا مناطق مثل بات غاليم وهو حي ساحلي يقع على البحر المتوسط، ويتميز بشواطئه الجميلة والأجواء السياحية، ويحتوي عدداً من المنشآت الصحية المهمة مثل مستشفى رامبام. كذلك هناك منطقة «الداون تاون» وهي منطقة تجارية وصناعية قديمة وتشمل ميناء حيفا، وبها عديد من المكاتب الحكومية والمرافق العامة. كذلك نجد «حي الألمانية»، وهو أحد الأحياء التاريخية في حيفا، وقد أُنشئ في القرن الـ19 من قِبل المستوطنين الألمان.
أما أبرز المناطق التي جرى استهدافها مراراً على مدار الشهور الماضية، فكانت مناطق كريات حاييم وكريات شمونة، وهي مناطق تقع في الضواحي الشمالية من حيفا، وتُعد جزءاً من المدن الصغيرة المحيطة بحيفا الكبرى، وهي أحياء سكنية للعائلات، وتضم عديداً من المرافق التعليمية والصحية.
وقد شملت هجمات حزب الله مؤخراً منطقة كريات بياليك التي تأسست عام 1934، وسُميت على اسم الشاعر اليهودي حاييم نحمان بياليك. وتقع بالقرب من خليج حيفا، وتبعد حوالي 10 كيلومترات عن وسط مدينة حيفا، وتُعد ذات أهمية سكنية وتجارية، ويقطنها حوالي 40 ألف نسمة، وتعد المستقر الأساسي للمهاجرين الجدد إلى إسرائيل.
كل تلك المناطق ستدخل يوماً في خط النار. لتكون حرب حزب الله مع إسرائيل كاشفة عن أبرز سؤال يمكن أن تفكر فيه إسرائيل: أين العمق الإستراتيجي؟
في حالة كيان يُعادي محيطه بالكامل، سيكون مأزوماً دوماً طالما ظلت أحشاؤه العسكرية والحيوية معروضة أمام كافة الخصوم، ولا تبعد سوى بضع كيلومترات عن منصات إطلاق الصواريخ في قطاع غزة أو جنوب لبنان.
تحاول إسرائيل حل تلك المعضلة بخلق حالة من الردع ضد أعدائها، وكي وعيهم لجعل التفكير في مهاجمتها انتحاراً. لكن ربما تكشف الأيام المقبلة عن محاولات إسرائيلية لاقتناص كيلومترات إضافية من دول المحيط، كي تخلق لنفسها عمقاً استراتيجياً يعطيها أماناً أكثر.